لا يكتمل الحديث عن التغيير، ضمن هذه السلسلة من المقالات، من دون تناول التطورات المتسارعة في مجال الاتصال وتكنولوجيا المعلومات، هذا المجال الذي يشهد منذ بداية الألفية الثالثة ثورة حقيقية ألقت، ولا تزال تلقي، بتأثيراتها الجذرية والعميقة على مختلف جوانب الحياة البشرية، الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، ويعدُّها كثيرون مفتاح الولوج إلى المستقبل، وامتلاك ناصية القوة والتطور والحداثة في عالم متغير. لقد كان للتطور في مجال الاتصالات تأثير عميق في بنية المجتمعات البشرية عبر التاريخ، فمع كل تطور أو اختراع مهم لتسهيل وتحسين أساليب الاتصال، كانت البشرية تنتقل من مرحلة حضارية إلى أخرى أكثر تطوراً، ففي البداية كان البشر يستخدمون الرموز والصور والإشارات للاتصال والتفاهم، وعندما نجحوا في تطوير هذه الرموز والإشارات إلى شكلٍ ما من أشكال الكتابة والتدوين باستخدام وسائل ومواد بدائية كورق البردي والجلود والألواح الخشبية، اعتُبِرَ ذلك تطوراً مهماً في مجال نقل المعرفة والاتصال بين البشر. وعندما ظهرت الطباعة في القرن الخامس عشر الميلادي اعتُبِرَت أعظم وسيلة تواصل عرفها العالم، بالنظر إلى ما أحدثته من تحول، بعدما أصبح من السهل والميسَّر طبع مئات، بل آلاف الكتب والوثائق، ونشرها وتوزيعها، لتنطلق حركة التنوير الثقافية والمعرفية التي مهَّدت لنشوء الحضارة الحديثة. كما كان للاختراعات المهمة في مجال الاتصال في القرنين التاسع عشر والعشرين، دورها الحاسم في التطور العالمي، بدءاً من اختراع التلغراف (البرق) عام 1837، ثم الهاتف عام 1876، وبعده جهاز الفونوغراف عام 1877، وهي جميعها أجهزة أسهمت في رواج الحركة التجارية والثقافية والعلمية بين المجتمعات البشرية، قبل أن يتم اختراع الراديو عام 1896، والذي اعتُبِر ثورة في مجال الاتصال، حيث كان أول جهاز يستخدم موجات الطاقة الكهرومغناطيسية لنقل المعلومات عبر الفضاء، وهو ما فتح المجال أمام ثورة الاتصالات اللاسلكية، التي عُزِّزت باختراع التلفزيون عام 1924. ووُصِفت الأقمار الاصطناعية بأنها إحدى المعجزات البشرية في مجال الاتصالات، التي تمت في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث لعبت هذه الأقمار دوراً مهماً في تطوير الاتصالات اللاسلكية، بالإضافة إلى دورها الأمني كأدوات للتجسس، وتحديد الأهداف العسكرية، وتوجيه الأسلحة في الحروب. محرك للتطور البشري وفي جميع هذه التحولات المهمة كان التطور الذي يشهده قطاع الاتصالات هو المحرك للتطور البشري والحضاري العالمي، لكن تأثير هذا القطاع لم يكن أبداً بمثل هذا العمق والتغيير، كما هي الحال في العقود القليلة الماضية، وذلك بفضل التطورات المذهلة التي سجلتها البشرية في مجالات المعرفة ونظم المعلومات والتطورات الإلكترونية، ولاسيما بعد ظهور الإنترنت، ما أحدث ثورة معرفية اتصالية غير مسبوقة غيَّرت وجه العالم. ولعل أهم ما يميز هذه الثورة، التي يشهدها العالم اليوم في مجال الاتصال وتكنولوجيا المعلومات، هو السرعة الكبيرة في التحولات التي تشهدها، فهذه الثورة تتطور بشكل يفوق بمرات عدة التقدم الذي شهدته الثورات الاتصالية والمعرفية السابقة، ويعجز كثيرون حتى من المتابعين لها والمهتمين بها عن ملاحقة التغيرات التي تشهدها، ويمكن تبيُّن ذلك بسهولة من خلال ملاحظة عمق التحول الذي شهده العالم في هذا المجال منذ مطلع الألفية الحالية، ففي عام 2000 كان الهاتف الثابت والإنترنت بشكلها المحدود للغاية وسيلتي الاتصال الرئيسيتين بين الناس، أما اليوم، وبعد أقل من عقدين من الزمن، ثمة مليارات من البشر يتواصلون عبر هواتفهم الذكية، وتعمقت ثورة شبكات التواصل الاجتماعي وتطبيقات التراسل، وتوسع استخدام الإنترنت العريضة النطاق، التي أصبح يستخدمها نحو نصف سكان العالم (قدَّر الاتحاد الدولي للاتصالات عدد مستخدمي الإنترنت في العالم بـ4.3 مليار شخص مع نهاية عام 2017، فيما قدَّر تقرير للجنة التجارة الدولية الأميركية، في أغسطس 2017، عدد الأجهزة المتصلة بالإنترنت في عام 2015 بـ16.3 مليار جهاز بزيادة نسبتها 87% على عام 2012، كما تضاعف حجم تدفق المعلومات عبر الإنترنت بنحو 12 ضعفاً بين عامي 2007 و2016)، وتطورت قدرات معالجة البيانات على نحو غير محدود، وارتقت قدرات التخزين والوصول إلى المعرفة، إضافة إلى التطور المذهل في التقنيات الناشئة، التي تشمل ميادين واسعة كالذكاء الاصطناعي، والروبوتات، وإنترنت الأشياء (IOT)، والمركبات الذاتية القيادة، والطباعة الثلاثية الأبعاد، والحوسبة الكمِّية...إلخ. وحسب مؤشرات استخدام الإنترنت في العالم، فإن عدد الأجهزة المتصلة بالإنترنت في العالم بلغ 16.3مليار جهاز في عام 2015، وبلغ حجم تدفق المعلومات عبر الإنترنت 26,600 جيجابايت في الثانية 2017، ووصل عدد مستخدمي الإنترنت في العالم 4.3 مليار نسمة في عام 2017، كما أن حجم التجارة الإلكترونية في العالم 27.7 ترليون دولار، 2016.(المصدر: USITC، 2017). ولا يمكننا بطبيعة الحال في هذه المساحة الصغيرة الإلمام بكل التأثيرات والتحولات التي أحدثتها هذه الثورة الاتصالية في مختلف مناحي الحياة البشرية، والتي سبق أن تعرَّضتُ بالتفصيل لبعض جوانبها، وهو وسائل التواصل الاجتماعي، في كتابي الذي صدر عام 2013 بعنوان: «وسائل التواصل الاجتماعي ودورها في التحولات المستقبلية: من القبيلة إلى الفيسبوك»، ولكنني سأتوقف قليلاً عند بعض جوانب التحول والتغيير التي أفرزتها هذه الثورة الاتصالية حتى الآن، والتي أتوقع أن يمتد تأثيرها ويتطور مستقبلاً، ليرسم ملامح عالم مختلف كلياً عمَّا ألفناه في السابق. جوانب التحول الجانب الأول ذو سمة اقتصادية، ويتعلق بالتركيز العالمي على اقتصاد المعرفة والاستثمار في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. وحجم التغيير هنا مذهل بكل المقاييس، فطبقاً لتقرير لجنة التجارة الدولية الأميركية، المشار إليه آنفاً، حققت التجارة الإلكترونية في العالم نمواً سريعاً مدعوماً بالتحول من التسوق التقليدي إلى التسوق عبر الإنترنت والهواتف الذكية لتصل قيمتها الإجمالية إلى 27.7 تريليون دولار أميركي في عام 2016 من 19.3 تريليون دولار عام 2012، من بينها 3.8 تريليون دولار قيمة التجارة الإلكترونية بين المستهلكين والشركات، و23.9 تريليون دولار بين الشركات وبعضها بعضاً، في الوقت الذي باتت فيه شركات تكنولوجيا المعلومات تتربَّع على عرش الشركات التجارية الكبرى في العالم، كشركة «آبل»، التي قُدِّرت قيمتها السوقية نهاية عام 2017 بنحو 900 مليار دولار، وفق تقرير لوكالة بلومبيرج في نوفمبر 2017، وشركة «ألفابيت» التي تتبعها «جوجل» (729 مليار دولار)، و«مايكروسوفت» (660 مليار دولار)، و«أمازون» (563 مليار دولار)، و«فيسبوك» (515 مليار دولار)، وشركة «علي بابا» الصينية (441 مليار دولار)، وذلك وفق البيانات التي نشرتها صحيفة الجارديان البريطانية يوم 3 يناير 2018. كما تمثل ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات محور ارتكاز «الثورة الصناعية الرابعة» التي يخطو العالم في اتجاهها خطوات حثيثة، وتقوم في جوهرها على فكرة ابتكار أنظمة وآلات ذكية يتم التحكم فيها إلكترونياً من خلال شبكات اتصال متنقلة عريضة النطاق وفائقة السرعة. تلاشي فكرة السيادة الوطنية والجانب الثاني ذو سمة اجتماعية - سياسية، ويرتبط بما أفضَت إليه ثورة الاتصالات من تلاشي فكرة السيادة الوطنية بشكلها التقليدي المتعارَف عليه منذ قيام الدولة القومية الحديثة في القرن السابع عشر بعد مؤتمر وستفاليا 1648، وكسر كل الحدود والحواجز بين الداخل والخارج، وما أفرزته من تأثيرات في قيم الهوية الوطنية للمواطنين في المجتمعات المختلفة، وخلق «المواطن العالمي» الذي لم يعد يتأثر في تشكيل توجهاته وأفكاره ومبادئه ببيئته وثقافته المحليتين فقط، وإنما بأفكار وقيم خارجية تُبَثُّ على مدار الساعة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت أيضاً. وتركت هذه الثورة الاتصالية تأثيرها على أنماط العلاقات الاجتماعية بين البشر وأخلاقياتهم وسلوكياتهم وتعاملاتهم، مثلما فرضت على الحكومات تحديات جديدة للتكيُّف معها ومجاراتها، فتطورت فكرة الحكومات الإلكترونية التي تعمل على تقديم الخدمات الإلكترونية إلى المواطنين، وعمدت بعض الحكومات إلى إعادة هيكلة نظم الحكم المحلي فيها، بحيث توفر التفاعل المباشر بين المواطنين والسلطات المحلية. أما الجانب الثالث فهو ذو سمة أمنية-عسكرية، فهذه الثورة في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وفرت منصَّة خطيرة للجماعات الإرهابية والمتطرفة للنمو ونشر أفكارها الظلامية داخل المجتمعات، كما وفَّرت للقوى المتنافسة والمتصارعة مجالات جديدة لإلحاق الضرر بمنافسيها، سواء من خلال الحروب السيبرانية التي شهدت تنامياً كبيراً في خطورتها، أو من خلال محاولات اختراق الدول المنافسة من الداخل، وتهديد أمنها واستقرارها عبر تحفيز الاضطرابات الاجتماعية فيها، أو تشكيل الخلايا النائمة المرتبطة بها، أو حتى من خلال توظيف وسائل الاتصال الحديثة في التجسس ومعرفة أدق التفاصيل عن الخصوم. وقد وفرت ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، خلال العقدين الماضيين، فرصاً كبيرة ومهمة لتعزيز التواصل الحضاري والتعاون بين الأمم والثقافات المختلفة، وساعدت على تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة قائمة على اقتصاد المعرفة، لكنها في المقابل خلقت تحديات كبيرة أمام الدول والحكومات، وأوجدت تهديدات عالمية لا قِبل للعالم بمواجهتها إلا من خلال تعزيز التعاون المشترك، بيد أن هذه الثورة لا تزال في بدايتها، وتأثيراتها النهائية لم يتم تحديدها بعد، فهناك استثمارات ضخمة تُوجَّه إلى هذا القطاع الحيوي تركز على عناصر الإبداع والابتكار، التي تهدف إلى تطوير وسائل وآليات وتطبيقات جديدة تعزز ثورة الاتصالات القائمة، وهذا ما سيضعنا أمام فرص جديدة ستوفرها هذه الثورة الاتصالية، وكذلك أمام تحديات جديدة ربما تكون أكثر خطورة من تلك القائمة اليوم، ومن بينها، على سبيل المثال لا الحصر، تآكل قدرة الحكومات، وربما انعدامها مستقبلاً، على التحكم في وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي داخل حدودها الوطنية، فخدمات الإنترنت التي تتحكم فيها الحكومات اليوم، وتستطيع فصلها أو إيقافها إذا اقتضى أمنها القومي ذلك، قد لا تستطيع هذه الحكومات التحكم فيها مستقبلاً، حيث سيكون لشركات التكنولوجيا الرائدة القدرة على أن توفرها لمواطني أي دولة حتى من دون موافقة هذه الحكومات إن أرادت، كما أن هذه الخدمات يمكن أن تُدرَج في المستقبل ضمن الحقوق الأساسية للإنسان، التي تُلام الحكومات وتعاقَب إذا انتهكتها. ومع التوسع في تقنيات الاتصالات الحديثة، ولاسيما تطبيقات «إنترنت الأشياء»، سيصبح تحكم شركات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في تفاصيل حياتنا أكثر عمقاً وتأثيراً، إضافة إلى التحديات القانونية والإنسانية المحتمَلة لهذه الثورة في مجال الاتصالات والمعلومات، ولاسيما ما يتعلق منها بانتهاء «عصر خصوصية الإنسان»، والتزايد المحتمل في معدلات البطالة العالمية مع الاتجاه إلى تقليل الاعتماد على العنصر البشري، وزيادة الاعتماد على الآلات الذكية، وما قد يفضي إليه ذلك من اضطرابات اجتماعية، ناهيك عن التحديات المرتبطة بصياغة الأطر القانونية القائمة وتطويرها حتى تستجيب للتعامل مع التطورات المستجدة وعصر الآلات والروبوتات الذكية، والأبعاد الأخلاقية لكل هذه التطورات. التكيُّف مع التغييرات المتسارعة ولعل التحدي الأهم، الذي سوف نواجهه في المستقبل، في تقديري، هو التكيُّف مع التغييرات المتسارعة التي يشهدها العالم في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وهو تحدٍّ يواجهه حتى العالم المتقدم، فعلى سبيل المثال، فإن شركة مثل «نوكيا»، التي سيطرت على سوق الهواتف المتحركة في العالم، وكانت أول شركة صنعت الهواتف الذكية، لم تستطِع أن تحافظ على مكانتها الدولية في هذه السوق التي فقدتها لمصلحة شركات أخرى مثل «آبل» و«سامسونج»، ليس لشيء، إلا لأنها تحركت ببطء، ولم تواكب التغييرات المتسارعة في هذا المجال. ولعل ما يبعث على الارتياح أن دولة الإمارات العربية المتحدة فطِنت إلى أهمية الاستثمار في هذا القطاع الحيوي، في سياق توجهاتها الاستراتيجية المستقبلية، وتحقيق التنمية المستدامة في مرحلة ما بعد النفط، حيث أطلقت قيادتنا الرشيدة، حفظها الله، الكثير من المبادرات والمشروعات الطموحة لنقل المجتمع إلى سباق المنافسة في هذا المجال، فمن مبادرة «الحكومة الإلكترونية»، إلى مبادرة «الحكومة الذكية»، إلى الدخول في السباق العالمي لاستكشاف الفضاء الخارجي عبر «مسبار الأمل» لاستكشاف كوكب المريخ، وإطلاق «استراتيجية الإمارات للثورة الصناعية الرابعة»، وتشكيل مجلس لها، كأساس للانطلاق نحو الاستثمار في قطاعات المستقبل القائمة على الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والحوسبة السحابية، والطباعة الثلاثية الأبعاد، وإنترنت الأشياء، كل ذلك يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن هذه القيادة، التي أنعم بها الله على دولة الإمارات العربية المتحدة، واعية ومدركة لحقيقة التغيير الذي يشهده عالم اليوم، ولديها الإرادة والإصرار والقدرة على خوض غمار التحدي.